ليست الحرب الأخيرة
عبدالحليم قنديل
فى وقت ما قد يكون قريبا ، سوف يتوقف إطلاق النيران مؤقتا فى الحرب الراهنة ، وهى أعنف مواجهة فلسطينية خالصة مع كيان الاحتلال ، نزفت وتنزف فيها “غزة” كما لم يحدث قبلها أبدا ،
غير أن الحرب ، التى يبدو فيها وجه المأساة الفلسطينية ظاهرا إلى حد الإبادة الجماعية ، حملت أيضا وجوه صمود وبطولة خارقة لا تخفى ، فهذه أول مرة تعبر فيها قوات المقاومة الفلسطينية من الأراضى المحتلة عام 1967 إلى الأراضى المحتلة فى نكبة 1948 ، ليس باختراق فدائى محدود ، ولا بعمليات استشهادية ، بل بقوات نخبة عالية التدريب جاوزت الألف ، وكجيش نظامى محترف ، يتقن الخداع الاستراتيجى والمفاجأة المذهلة ، وتحارب جيش الاحتلال فى عقر كيانه وقواعده ، وتسحق استخباراته وتكنولوجياته وضباطه وجنوده ، وتسيطر لأيام طويلة على نحو 500 كيلومتر مربع ، وتنفذ انسحابا كفؤا منظما عبر طرق مرئية ومخفية ، ومعها مئات الأسرى تحتفظ بهم فى مدن أنفاق هائلة ، لم ينجح قصف غزة بالطائرات والقنابل الأمريكية “الزلزالية” ، وبما يساوى عدة قنابل ذرية حتى اليوم
والمعنى فيما جرى ويجرى ببساطة ، أن المقاومة الفلسطينية الجديدة ، فوق إذلالها لجيش الاحتلال ، والتهشيم الكامل لصورته المصطنعة كقوة لا تقهر ، فإنها تكسب أرضا معنوية جديدة ، وتقدم نفسها لأحرار العالم وضمائرهم المستيقظة فى بطء ، تزيده اطرادا وصحوا مذابح العدو وفظاعات حربه ، وتحيى القضية الفلسطينية من موات ، وهو تطور لم يحدث فجأة صباح هجوم المقاومة فى 7 أكتوبر 2023 ، فقضية الاحتلال العنصرى الإرهابى لم تبدأ اليوم ، ومجازره متواصلة بالعشرات والمئات ، من مذابح “دير ياسين” و”الطنطورة” و”كفر قاسم” و”صبرا وشاتيلا” إلى مجزرة المستشفى “المعمدانى” ، وهو قاتل وحارق الأطفال والنساء والمسنين والمساجد والكنائس والمدارس ، و”إسرائيل” هى “أم الإرهاب” الغربى الأمريكى وسليلته ، وما من قوة احتلال لها حق مزعوم فى “الدفاع عن النفس” ، بل الشعب الفلسطينى المبتلى بالاحتلال ، هو صاحب الحق الأصيل فى الدفاع عن النفس ، وفى استرداد الكرامة والأرض ودفع العدوان ، ثم أن “دولة” الاحتلال ليست كيانا طبيعيا بأى معنى ، وهى بلا دستور وبلا خريطة حدود ، و”نتنياهو” المجرم رئيس وزراء العدو ، تحدث أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة فى سبتمبر الماضى ، وكان يخاطب الكراسى الفارغة أمامه ، إلا من حماته الأمريكيين والغربيين وأتباعهم ، وقدم لهم خريطة “لإسرائيله” ، تضم كل أراضى فلسطين التاريخية ، وبما فيها القدس والضفة الغربية وغزة نفسها ، وجرت هذه العجرفة ـ طبعا ـ قبل هجوم المقاومة صباح السابع من أكتوبر ، فوق قتل المئات فى مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية ، تضاف إليهم المئات اليوم ، إضافة لأسر الآلاف ، واغتيال قادة الأسرى فى سجون العدو ، وتهويد وتدنيس القدس والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة ، وتغول المستوطنات الاستعمارية فى الضفة الغربية ، وإعلان الرفض “الإسرائيلى” البات لإقامة أى دولة فلسطينية ، وتقويض أى أساس جغرافى وسكانى لهدف إقامة دولة فلسطينية هزيلة ، والسخرية الفعلية اليومية من فولكلور “حل الدولتين” ، الذى يتغنى به أغلب حكام الدول العربية ، وهو يعرفون يقينا ، أنه لا مفاوضات ولا يحزنون ، ويريدون ـ فقط ـ ستر عوراتهم أمام شعوبهم ، وإفساح المجال لحليفهم “الإسرائيلى” وراعيهم الأمريكى المشترك ، وهو ما كان سببا موضوعيا لأخذ الشعب الفلسطينى لقضيته بين يديه ، خصوصا مع تجذر فكرة الثبات على الأرض ، وبدء مرحلة جديدة من سيرة المقاومة العفية بأجيال جديدة ، من “قيامة القدس” و”سيف القدس” إلى “طوفان الأقصى” ، وقد لا يكون “الطوفان” هو الحرب الأخيرة ، إنه ـ بامتياز ـ أول علامات ساعة التحرير المقبل لكل فلسطين ، وبداية النهاية لفاشية وعنصرية وإجرام واحتلال كيان الاغتصاب ، وروح ثقة أكيدة مضافة لعبقرية وإبداع الشعب الفلسطينى ، وقد صارت له الأغلبية السكانية على أرضه المقدسة من جديد ، وكما لم يحدث أبدا منذ نكبة وتهجير حرب 1948 ، وهو ما يعيد القضية إلى سيرتها الأولى ، ويكشف خواء أفكار أزمان الهزيمة ، والبحث عن فتات حق لا عن أصل الحق ، فأصل الحق الفلسطينى فى فلسطين من النهر إلى البحر ، وقد يمد الغرب “إسرائيله” بكل الأسلحة والأموال ، لكنه لا يستطيع إعادة نفخ الروح فى كيانها ، مع نضوب مخازن “الهجرة اليهودية” المستعدة للقدوم إلى الكيان ، ومع تصاعد معدلات التهجير العكسى ، وانكشاف الحجم المريع لمزدوجى الجنسية فى الكيان المصطنع ، واندفاعهم للهروب فى أى لحظة خطر ، فقد تحطمت وتتحطم معنويات المستوطنين ، وسقطت وتسقط خرافة اندماج “إسرائيل” فى البيئة العربية الإسلامية المحيطة ، وتداعت أدوار ووعود اتفاقات “إبراهام” ملعونة الذكر ، وتزلزلت أساطير “جيش الدفاع” الموهوم ، وصارت كل أنظمة التطبيع فى قفص الاتهام ، وصار مطلب تجميد الاتفاقات مطروحا حتى فى الدوائر الرسمية ، فقد بدأت مرحلة تاريخية جديدة ، ودخل الكيان الإسرائيلى فى دورة “العد التنازلى” ، وصولا لإقامة دولة ديمقراطية بأغلبية فلسطينية وأقلية “إسرائيلية” فى مدى سنوات تأتى ، وبسلاسل انتفاضات شعبية وصدامات مسلحة متراكمة وحاسمة الأثر ، وأيا ما كانت نهايات الحرب الجارية اليوم .
Kandel2002@hotmail.com