قبل وصوله الأول إلى البيت الأبيض فى انتخابات 2016 ، كان “دونالد ترامب” مغرما ببرامج تليفزيون الواقع ، وكانت له صولات وجولات فيها ، كثير منها فاضح وإباحى إلى أبعد حد ، ورغم وصوله لمرتين إلى رئاسة دولة عظمى ، فلم ينس “ترامب” شغفه القديم بتليفزيون الواقع ، وربما نهمه لمنافسة “كيم كارداشيان” أشهر نجوم برامج تليفزيون الواقع الأمريكية ، لكن سلطته العالمية هذه المرة ، منحته على ما يبدو فرصا لتجريب تليفزيونى جديد ، مضمونه أن يحول الواقع لصورة تليفزيونية صاخبة ، فالرجل لا يغلق فمه أبدا ، ويقول الشئ وعكسه فى ذات الجملة ، ولا يتذكر كذبته السابقة حتى يشرع فى كذبة أكبر ، ويتباهى بشعره البرتقالى الذى يعتبره كتاج امبراطورى ، يزين غزواته “السلامية” الكبرى ، وفى رحلته الأخيرة إلى كيان الاحتلال ثم “مؤتمر شرم الشيخ” ، أعلن أنه حقق “السلام الأبدى” فى ساعات ، وأنهى صراعات عمرها آلاف السنين كما يتقول ، وعلق غاضبا على غلاف مجلة “تايم” الأمريكية بعد عودته إلى المكتب البيضاوى ، فقد وضعت “تايم” على غلافها صورة للرئيس الأمريكى التقطت له من أسفل ، بدا فيها “ترامب” متطاولا برقبته المليئة بالتجاعيد و”اللغاليغ” ، وعلى خلفية مضيئة بأشعة الشمس ، وعلقت المجلة بكلمة واحدة بدت مستخفة ترجمتها “انتصاره” ، وكان أكثر ما أثار حفيظة “ترامب” ما ذكره فى تعقيب فورى نشره على منصته الاجتماعية الخاصة “تروث سوشيال” ، وشكواه من أنهم “أخفوا شعرى” بدفع الرأس إلى الوراء ، وجعلوا تاج الضوء “باهتا عائما” ، بينما كانت رحلته إلى الشرق الأوسط واحدة من أقوى استعراضاته التليفزيونية ، فلم يترك أحدا دون أن يمتدحه أو يهينه مازحا ، ومقابل أن يتهافت عليه أغلب الرؤساء والقادة من أوروبا والعالمين العربى والإسلامى ، ويتسابقون لالتقاط الصور مع “الامبراطور الأعظم” بقامته المديدة وشعره البرتقالى المرجل على صورة تاج ، وكلماته الفارغة من أى معنى مقبول أو معقول .
بدا “ترامب” خلال جولته الشرق أوسطية الأخيرة ، وكأنه يريد أن يختصر الدنيا فى شهقة ، وينهى أعقد صراعات المنطقة الملتهبة بلمسة يد سحرية ، وضعت توقيعه “السامى” على اتفاق تنفيذ المرحلة الأولى مما صار يعرف باسم “خطة ترامب” ، واعتبر توقيعه “الامبراطورى” بمثابة “بوليصة تأمين” لكل الأطراف ، ودونما دراية يعتد بها بأبسط مقتضيات وأبجديات السياسة والتاريخ ، وبدا أنه يحب الجميع الذين يحبونه ، وعاد لترديد عبارته العبثية عن إيقافه الفورى لسبع حروب ، صارت ثمانية ـ فى رأيه ـ مع وقف حرب الإبادة الجماعية فى “غزة” إلى حين ، ولم يذكر ـ طبعا ـ تهديداته الشهيرة بوضع “غزة” فى قاع الجحيم ، ولا ذكر تفاخره بمنح صنوه المجرم “بنيامين نتنياهو” الفرصة تلو الفرصة لإنهاء ما أسماه “المهمة” فى “غزة” ، ولا ذكر جسور الإمداد الجوى والبحرى بالأسلحة الأمريكية الأكثر تطورا لجيش الاحتلال ، ولا مشاركة أمريكا الفعلية فى حرب الإبادة المتصلة لأكثر من عامين ، سواء فى عهده ، أو فى عهد سلفه الذى يحتقره “جو بايدن” ، وكلاهما شارك فى حماية البقرة المقدسة ، عبر نشر الجيوش والأساطيل والمدمرات وحاملات الطائرات ، والانطلاق الأمريكى عسكريا من ستين قاعدة ونقطة ارتكاز فى “إسرائيل” والمشرق والخليج العربيين ، والاشتراك المباشر بالنار فى القتال الميدانى ضد “الحوثيين” و”إيران” ، ومن دون أن يحقق الاندماج العسكرى الأمريكى “الإسرائيلى” نتائج حاسمة نهائية ، لا فى “غزة” ولا فى غيرها من الساحات المساندة ، وإزاء وعورة تضاريس الواقع الصلد الذى صادف جيوشه ، فكر “ترامب” أن يغطى على الإخفاق بصور تليفزيونية ، تدعى النصر الباهر وفرض السلام بالقوة ، واختلق لنفسه واقعا موازيا يزدحم بالصور المصنوعة والمبالغات الممجوجة .
ولم يمانع “ترامب” حتى فى دعوة إيران ورئيسها إلى مؤتمر “شرم الشيخ” الذى عقد برئاسته المشتركة مع الرئيس المصرى “عبد الفتاح السيسى” ، ورفضت “إيران” الدعوة للقاء سلام مزعوم مع القاتل ، وكان “ترامب” الذاهب بعيدا فى خيالاته وواقعه الموازى المنقول تليفزيونيا ، قد تصور أنه يمكن جلب إيران نفسها إلى مائدة أوهامه واتفاقاته “الإبراهيمية” ، مع فتوحات عظيمة أخرى تصورها ، تجلب عددا لا بأس به من الدول المشرقية والخليجية والإسلامية إلى اتفاقات العار ذاتها ، والقفز فوق القضية الفلسطينية إلى سلام يصنعه على ذوقه وعلى مقاس شريكه الأصغر “نتنياهو” ، ولا تبدو المهمة ميسورة ، ولا فى المتناول القريب ، رغم تباهى “ترامب” بالقدرات “الفذة” لصهره “جاريد كوشنير” ومبعوثه “ستيف ويتكوف” ووزير خارجيته “ماركو روبيو” ، ومقارنة أدوارهم بدور “هنرى كيسنجر” وزير الخارجية الأمريكى الأشهر بإطلاق ، بينما لا شئ يجمعهم مع “كيسنجر” سوى الولاء الصهيونى ورابطة الانتساب اليهودى غالبا ، ومن العبث العقلى طبعا ، أن يتصور أحد مقاربة أو مشابهة بين “روبيو” و”كيسنجر” ، لكن “ترامب” لا يأبه بموازين العقل ولا بانضباط الألفاظ ، ولا بأس عنده بتوزيع الألقاب على معاونيه الأقربين ، الذين لا يجيدون شيئا سوى طاعته وتنفيذ أوامره المتقلبة ، ولا يخلو مديح “ترامب” لوزير خارجيته الباهت من غمز ولمز وسخرية مخفية ، فقد كان “روبيو” ـ فيما مضى ـ من منافسى “ترامب” على نيل ترشيح الحزب الجمهورى لرئاسة البيت الأبيض .
وفى محطة “ترامب” على منصت الكنيست “الإسرائيلى” ، كان “ترامب” فى ذروة سعادته وصدقه العفوى ، فقد ترك جهاز القراءة الآلية لخطابه الرسمى جانبا ، واندمج فى غمرة احتفال تلقائى بشخصه ، وارتجل مشاعره الحماسية المتدفقة، وقوطعت كلماته بالتصفيق 42 مرة ، وكال المديح لصديقه المحاصر “نتنياهو” ، ولم ينس أن يصدر توجيهاته للآخرين ، وطلب من زعيم المعارضة “يائير لابيد” أن يكون أكثر لطفا مع “نتنياهو” ، وأمر الرئيس “إسحاق هيرتزوج” بإصدار عفو شامل يلغى محاكمات “البطل نتنياهو” فى قضايا فساد وخيانة أمانة منظورة ، ووزع “ترامب” أوصاف “الرائع” و”الجميل” و”العبقرى” و”المدهش” على الجالسين فى الصفوف الأولى من أمريكيين و”إسرائيليين” ، وكأنه يستضيفهم فى بيته الخاص ، لا فى “برلمان” يفترض صوريا أنه تابع لدولة أخرى ، وبما كشف عن حقيقة “الاندماج الاستراتيجى” والامتزاج اللامتناهى الصور ، وأن الرئيس الأمريكى هو الحاكم الأصلى المطاع لهذه “الإسرائيل” ، ليس فقط فى قرارات الحرب والسلم ، بل فى أدق التفاصيل ، وبلغ تعبير “ترامب” عن الامتزاج ذروته مع دعوته المليارديرة الأمريكية اليهودية “ميريام أديلسون” للوقوف تحية لشخصها ، واهتم بذكر حيازة “ميريام” لثروة قدرها 60 مليار دولار ، وأنها زارته مع زوجها مرات فى البيت الأبيض ، وأنه سألها ذات مرة عن البلد الأحب إلى قلبها ، وهل هى “أمريكا” أم “إسرائيل” ؟ ، وأن “ميريام” ذات الجنسية المزدوجة الأمريكية “الإسرائيلية” امتنعت عن جواب السؤال ، ثم أومأ “ترامب” برأسه موافقا ، فهو الآخر يحب ويخدم “إسرائيل” كما أمريكا وأكثر ، ويهمه أن يرمم صورة “نتنياهو” ، بقدر ما يهمه أن يحصل على دعم “اللوبيات” اليهودية لمرشحى حزبه فى انتخابات تجديد الكونجرس نهايات العام المقبل ، وكانت “ميريام” تبرعت لحملة “ترامب” الانتخابية بأكثر من مئة مليون دولار .
وبعيدا عن ألعاب ترامب البهلوانية ، وشطحاته المغلفة بالزينة التليفزيونية ، تبقى حقائق الواقع الفعلى أكثر صلابة ، فكل ما حدث إلى اللحظة ، هو مجرد اتفاق هدنة ووقف لحرب الإبادة فى “غزة” إلى حين ، ونأمل كغيرنا ، أن تكون المقتلة الأمريكية “الإسرائيلية” انتهت ، وأن تنعم “غزة” المدمرة وأهلها بأمان تلتقط فيه أنفاسها ، وإن كان مهددا بألغام طريق قد تنفجر فى أى وقت ، فلا أحد عاقل يثق بتعهدات “إسرائيل”، حتى لو ضمنها “ترامب” كما جرى ، وقد لا نتوقع بالضرورة أن تعود حرب الإبادة كما كانت ، وإن كان واردا جدا ، أن يتكرر العدوان الأمريكى “الإسرائيلى” بصورة أقل حدة ، مع عدم وجود جداول زمنية لاستكمال مراحل الانسحاب “الإسرائيلى” من “غزة” ، ولن يحتاج جيش الاحتلال إلى ذرائع ، تماما كما جرى ويجرى فى الجنوب اللبنانى يوميا بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار قبل نحو سنة ، تكررت فيها اختراقات العدو لأكثر من 5 آلاف مرة ، وهو ما بدأنا نراه فى “غزة” ، وقد تزيد وتيرته الدموية فى قابل الأيام والأسابيع ، خصوصا مع العبور إلى المراحل التالية من “خطة” “ترامب” ، ومناقشة شروط نزع سلاح “حماس” وأخواتها ، واستحالة تنفيذ هذه الشروط عمليا ، فوق أن “خطة ترامب” لا تطرح أفقا مقبولا فى الحد الأدنى ، ولا فرصة لقيام كيان فلسطينى مستقل بأى صورة ، ولا إقامة لسلطة فلسطينية جامعة يؤول إليها سلاح “حماس” وأخواتها ، بل المطلوب بوضوح ، هو نزع “فلسطينية” غزة ، وفرض انتداب أجنبى كامل الأوصاف على الحلم الفلسطينى ، وتلك وصفة حرب تتجدد جولاتها ، وليست طريقا مؤديا إلى “سلام أبدى” ، يوهمنا به “ترامب” فى ملاهى واقعه التليفزيونى العجيب .
Kandel2002@hotmail.com