عند لحظة كتابة هذه السطور، كان الطيران الحربى “الإسرائيلى” يشن سلسلة غارات عنيفة ، استهدفت بيئة “حزب الله” ، من قرى الجنوب و”النبطية” والبقاع ، وإلى ضاحية بيروت الجنوبية ، التى كان توقف قصفها لأيام ، وبدا جنون الغارات على المدنيين ردا على عملية “بنيامينا” التى نفذها “حزب الله” ، وبدت اختراقا لافتا لكل حوائط الدفاع الجوى “الإسرائيلية” ، ووصلت فيها مسيرة “صياد” الانقضاضية إلى صالة عشاء الجنود والضباط فى قاعدة “بنيامينا” لتدريب عناصر “لواء جولانى” ، على بعد أكثر من مئة كيلومتر جنوب الحدود اللبنانية مع أراضى فلسطين المحتلة ، وكانت عملية احترافية مركبة باهرة ، أطلق فيها “حزب الله” عددا هائلا من الصواريخ لإشغال القبة الحديدية “الإسرائيلية” بكافة مستوياتها ، وإفساح الأجواء لعبور المسيرة الانقضاضية الذكية إلى هدفها المختار بعد مراوغات واستراحات فى الجو ، وألحقت المسيرة دمارا مباشرا ، قتل وجرح أكثر من سبعين عسكريا “إسرائيليا” ، وشكلت العملية صدمة قاسية لجيش الاحتلال ، الذى كان أعلن قبلها بقليل ـ على لسان الجنرال يوآف جالانت ـ عن تدمير ثلثى قوة الصواريخ والمسيرات فى ترسانة “حزب الله” ، وكان رد العدو عشوائيا ملتاثا ، لا تفرقة فيه بين مواقع عسكرية ومدنية لبنانية .
وبالطبع ، لن تكون عملية “بنيامينا” هى الأخيرة من نوعها ، ولا هى منفصلة عن التطور الكمى والنوعى فى رشقات “حزب الله” الصاروخية ، التى صارت تغطى كل شمال فلسطين المحتلة ، وإلى “صفد” و”طبريا” و”نهاريا” و”عكا” و”حيفا” وما بعد “حيفا” ، بل إلى منطقة “جوش دان” أى تل أبيب الكبرى ، وفيها الكتلة الأكبر من “الإسرائيليين” ، وبأكثر من أربعة ملايين مستوطن ، صاروا جميعا تحت زخات الرعب والخوف المتتابعة ، ورهن دوى صفارات الإنذار والذهاب للملاجئ ، وقد انطلقت صفارات الإنذار فى الكيان لأكثر من 25 ألف مرة خلال عام الحرب الأول ، وهو ما تتصاعد معدلاته اليوم مع إضافة حرب لبنان إلى حرب “غزة” ، ربما مع فارق محسوس ، أن “حزب الله” يملك ترسانة من الصواريخ والمسيرات النوعية ، التى لا يكتشفها نظام الدفاعات الجوية عند العدو ، لا بقبته الحديدية ولا بمقلاع داود ، وربما ولا حتى بنظام “ثاد” الأمريكى للدفاع الجوى ، الذى أرسلته واشنطن أخيرا إلى أراضى الكيان ، مع طواقم من الخبراء والعسكريين الأمريكيين لتشغيله ، وهو مخصص فى الأساس لعمليات مجابهة الصواريخ الباليستية ، سواء جاءت من “إيران” أو من “حزب الله” أو من “الحوثيين” فى اليمن ، لكن نظام “ثاد” لا يفيد فى مواجهة ، أو حتى فى اكتشاف المسيرات الانقضاضية الذكية ، ولا حتى إسقاط مسيرات الاستطلاع من نوع “الهدهد” ، التى لا تصدر عنها بصمات حرارية ورادارية ، وتعود بأمان إلى قواعدها فى لبنان ، ومعها صور مفصلة كاملة الوضوح عن بنوك أهداف عسكرية وصناعية ومدنية ، فيما بدا “حزب الله” قادرا على إسقاط أضخم وأعقد طائرات الاستطلاع المملوكة للعدو ، وقد أسقطت دفاعات الحزب قبل أيام طائرتى استطلاع “هيرميز” فى أجواء لبنان ، تضاف إلى أربع سبقتها من طرازات “هيرميز 900″ و”هيرميز 450” ، وهو ما يشير إلى استرداد “حزب الله” لعافيته العسكرية بعد ضربات العدو الكبرى ، التى قضت على أغلب العناصر القيادية فى صفوف “حزب الله” الأولى والثانية ، قبل وبعد اغتيال السيد “حسن نصر الله” الأمين العام للحزب ، وتفاخر رئيس وزراء العدو “بنيامين نتنياهو” مع أبواقه العبرية والعربية ، وتبشيرهم المتصل بانهيار “حزب الله” بعد تصفية قادته الكبار ، وهو ما لا يوجد عليه دليل ميدانى واحد ، اللهم إلا بتضخيم وقائع عادية جدا فى الحرب وميادينها ، من نوع أسر مقاتل أو أكثر من “حزب الله” ، لكن السلوك الحربى لحزب الله يبدو غاية فى تماسكه وانضباطه ، ربما بفضل الإحلال التلقائى للقيادات ، والعودة الظاهرة فى هيكل الحزب إلى سيرته السرية الأولى ، مع إبقاء عناصر محدودة تحت الضوء النسبى ، على طريقة الظهور المتواتر للشيخ “نعيم قاسم” نائب الأمين العام للحزب ، وفى كلمات مسجلة من أماكن سرية ، وقد جاءت إطلالة “قاسم” الثالثة بعد يوم واحد من عملية “بنيامينا” ، وبدا ظهوره هذه المرة متقنا فى تفاصيل الصورة ، وفى مضامين الخطاب المستعيد لخط الشهيد “حسن نصر الله” ، وبقوله الملفت بالعامية اللبنانية “حزب الله باق على قلب اللى منو حابب” ، كان الخطاب عاكسا لثقة فى النفس مستعادة بسرعة ، ومدعومة بإنجازات ميدانية وصاروخية لحزب الله ، تتدافع فى تنفيذ خطط وضعها “نصر الله” نفسه ، وبأساليب متطورة متدرجة إلى أهدافها ، وربما بجيل ميدانى قيادى أكثر شبابا ، يتقن أكثر وسائل التكنولوجيا الحربية الأحدث ، ويعبر فجيعة غياب القادة الكبار مع اختراقات أمنية ، يبدو أن “حزب الله” يحاول تجاوزها ، رغم الانشغال المكثف فى وقائع الحرب الجارية ، وقد بدت المعالجات مفيدة إلى حد ما ، وأفشلت ـ مثلا ـ محاولة اغتيال القيادى “وفيق صفا” فى غارتين متزامنتين على قلب بيروت ، وكأن خيوط تجسس بشرى قطعت فى مكان ما ، فوق أن عملية “بنيامينا” ، أوحت بوجود خروق على الجانب الآخر ، تحدثت عنها مصادر “إسرائيلية” أمنية وإعلامية ، أعربت عن دهشتها لدقة استهداف “حزب الله” للقاعدة ، وفى وقت تناول العسكريين لوجبة العشاء ، وفى مبنى الصالة المخصصة بالضبط ، ودون غيره من مبانى كثيرة بالقاعدة ، وبما قد يبرز دورا محتملا لاستخبارات “حزب الله” ، وفشلا مقابلا لأجهزة “الشاباك” و”أمان” و”الموساد” .
وفى جملة حوادث الحرب الجارية على جبهتى لبنان وفلسطين ، تبدو إفاقة “حزب الله” سريعة وملحوظة من صدمة “البيجر” وما تلاها من اغتيالات القادة ، وتبدو أيضا مقدرة “حزب الله” على استعادة عافيته الميدانية المتجددة ، فبرغم مرور أسابيع طويلة على بدء العدو لحملته البرية فى الجنوب اللبنانى ، لم تنجح قوات العدو ، وقد زاد عديدها إلى خمس فرق كاملة إلى اليوم ، ولم تستطع الذهاب إلى ما هو أبعد من اختراقات محدودة متفرقة على الحدود ، فيما يبدو نشاط قوات “حزب الله” متدفقا ، سواء فى عمليات تدمير ناقلات الجند ودبابات “ميركافا” ، والاستخدام المكثف لصواريخ “كورنيت” و”بركان” عبر الحدود ، والقصف الصاروخى المتواصل لتجمعات قوات العدو ، وإيقاع أعداد كبيرة منهم بين قتيل وجريح فى كمائن مركبة ، واستمرار قوات “حزب الله” فى الكمون بالأنفاق ، وفى غابات التلال والجبال والوديان ، واستدراج قوات العدو إلى عمق الداخل ، ربما لتوفير مسرح مثالى لعمليات قنص ضباط وجنود العدو ، فيما يلجأ جيش الاحتلال لنشر فيديوهات مبالغ فى قيمتها ، عن ضبط أنفاق وذخائر وأسلحة لحزب الله ، لا تشكل سوى عينات من ترسانة الحزب ، والهدف “الإسرائيلى” من صناعة أو اصطناع الفيديوهات معروف ، ولن تنجح غالبا فى رفع معنويات جنود العدو وجمهوره ، إلا لوقت عابر ، فالفارق هائل رهيب بين المعنويات على طرفى الصراع الجارى ، يكفى أن قرية واحدة فى الجنوب اسمها “عيتا الشعب” ، تعرضت وحدها لمئات ربما لألف غارة ، إضافة للقصف المدفعى الكثيف ، لكن “عيتا الشعب” وجوارها ، تبدو مستعصية على تقدم قوات العدو ، الذى قد يعبرها إلى حيث يلقى أهوال الجحيم ، فى حرب ممتدة الزمن ، يفقد فيها العدو ميزات تفوقه الجوى ، وينتقل إلى محنته البرية ، وإلى ملاحم القتال من المسافات الصفرية ، التى يتفوق فيها مقاتلو “حزب الله” غالبا ، تماما كما فعلت قوات “حماس” وأخواتها فى “غزة” ، ولا زالت تدير الكمائن المركبة لجيش الاحتلال ، من “رفح” إلى “خان يونس” إلى “جباليا” ، وفى حرب استنزاف متطاولة ، لا يملك جيش الاحتلال أن يكسبها أبدا ، لا على جبهة “غزة” ولا فى جبهة الجنوب اللبنانى ، ولا أن يحقق العدو هدفا لجحيم حربى يصنعه ويحترق بناره ، فلا هو استطاع القضاء على “حماس” وأخواتها فى “غزة” ، ولا هو استطاع استعادة أسراه بالقوة المسلحة ، ولا هو حطم هياكل المقاومة بعمليات الاغتيالات ، ولا هو استطاع خلق شروخ واسعة فى علاقة حركات المقاومة ببيئاتها الحاضنة ، ولا هو استطاع تهجير أهل “غزة” إلى خارج ديارهم المقدسة ، ولا هو سيستطيع تحقيق هدف إعادة مستوطنيه إلى الشمال ، بل العكس هو ما حدث ويحدث ، فقد أصبح سكان الشمال “الإسرائيلى” جميعا تحت نار وخطر صواريخ “حزب الله” ومسيراته ، وربما تضاف مئات الآلاف إلى المئة ألف من مستوطنيه الهاربين ، وربما يكمن الفرق “الثقافى” فى استعداد بيئات المقاومة لتقديم التضحيات إلى غير ما حد ، وتحمل العذاب الأسطورى دفاعا عن حقوقهم الوطنية ، والالتفاف فى كل حال حول جماعات المقاومة الاستشهادية الأسطورية ، فلا يأس مع المقاومة التى لا تهزم ولا تستسلم أبدا .
Kandel2002@hotmail.com