فى آخر اجتماع لمجلس الوزراء قبل الانتخابات النيابية عام (2005) تطرق وزير الداخلية اللواء «حبيب العادلى» إلى الاستعدادات الأخيرة غير أنه لم يشر إلى دعايات جماعة «الإخوان المسلمين» التى تملأ الشوارع دون أدنى مضايقة.
سأله الدكتور «ممدوح البلتاجى» الذى حمل على التوالى حقائب وزارات السياحة والإعلام والشباب مستغربا: «ماذا يحدث يا سيادة الوزير؟».
أجابه بشىء من السخرية: «الديمقراطية»!
فور انتهاء الاجتماع لحق «البلتاجى» بوزير الدفاع المشير «محمد حسين طنطاوى» سائلا: «هل سنترك البلد للإخوان؟».
أجابه بحركة يد كسيف على رقبة.
القصة نشرت فى وقتها دون إشارة إلى مصدرها.
فى الغرف المغلقة جرت صفقة سياسية بين أعضاء نافذين فى مكتب الإرشاد وممثلين كبار لأجهزة الدولة السيادية تحددت بمقتضاها حصة كبيرة للجماعة فى البرلمان مقابل دعم نظام الحكم وعدم الممانعة فى سيناريو «التوريث».
فى ذلك الوقت كانت هناك اجتماعات منتظمة فى حزب «الوفد» يقودها رئيس الوزراء الأسبق الدكتور «عزيز صدقى» لبناء جبهة موحدة تخوض الانتخابات ضد الحزب «الوطنى».
ضمت الاجتماعات ممثلين عن أغلب الأحزاب والقوى السياسية وشاركت فيها الجماعة قبل أن تنسحب فجأة بعد الصفقة مع السلطة دون إبداء أسباب.
كان خروج الإخوان طعنة فى الظهر أفضت من ضمن أسباب أخرى إلى إخفاق جهود «عزيز صدقى» المضنية فى بناء جبهة انتخابية معارضة.
الصفقة كشفت مبكرا بتسريبات من داخل الجماعة نفسها.
فى صراعاتها الداخلية تبدى ضيقا من توجه رجلها القوى «خيرت الشاطر» إلى عقد الصفقات مع نظام الحكم على حساب قوى المعارضة.
فى الجولة الأولى من انتخابات (٢٠٠٥) كف الأمن يده عن التزوير فى صناديق الاقتراع.
غير أن تجاوز الجماعة لما اتفق عليه استدعى تزويرا فى الجولة الثانية لمنع تقدمها إلى أكثر من (٨٨) مقعدا.
الانتهازية السياسية حكمت الطرفين نظام «حسنى مبارك» وحزبه «الوطنى» والجماعة ومكتب إرشادها.
لم يكن أيهما يحترم أية قواعد ديمقراطية أو أخلاقية.
وكلاهما سعى لأسبابه فى إضعاف الحياة الحزبية.
اللعبة تتكرر الآن بعد ثورتين أطاحتهما أحدهما بعد الآخر كأننا لم نتعلم شيئا من التاريخ الذى عانيناه.
لم يكن «الوطنى» حزبا حقيقيا ولا استطاع فى أية انتخابات أن يحوز أغلبية البرلمان رغم تدخلات الدولة الأمنية.
بعد كل انتخابات نيابية يضم إليه المستقلين والمنشقين عليه الذين فازوا فى الانتخابات ضد مرشحيه لاصطناع الأغلبية.
المرة الوحيدة التى حاز فيها الأغلبية جاءت بالتزوير الفاحش لانتخابات (٢٠١٠).
كانت هذه أسوأ انتخابات فى التاريخ المصرى سدت بعدها كل قناة سياسية وتقوض أى رهان على إصلاح النظام من داخله.
الاستهتار بالرأى العام سارع من وتيرة الهرولة إلى النهايات.
الرئيس الأسبق «مبارك» سخر من معارضيه الذين سعوا لتأسيس برلمان شعبى: «خليهم يتسلوا».
بقدر ما ارتفعت أصوات محدودة داخل الجماعة تعترض على صفقة (٢٠٠٥) ارتفعت أصوات محدودة مماثلة فى ردهات الحزب الوطنى.
«لماذا كل هذا الاحتقان؟».. سؤال طرحه الدكتور «حسام بدراوى» على أمين عام الحزب الوطنى «صفوت الشريف».
أجابه: «لا تسألنى أنا.. أسأل أحمد عز».
الأخير بدا منتشيا وأرقامه أمامه فى جداول على جهاز كمبيوتر: «لقد اكتسحنا لأننا الأقوى».
كان ذلك خداعا للنفس قبل الآخرين.
بعد ثورة «يناير» حدثت قطيعة مع تزوير الاستحقاقات الانتخابية.
باستثناء خروقات لا تؤثر على النتيجة الإجمالية فإن كل الاستحقاقات بدت على درجة من النزاهة.
هذا إنجاز هائل التلاعب به عواقبه سوف تكون مدمرة.
بسبب الثقة العامة فى نزاهة الانتخابات وقوة منافساتها ارتفع منسوب المشاركة بصورة غير مسبوقة.
وهذا إنجاز آخر قد يتبدد فى انتخابات (٢٠١٥).
للإفراط فى هندسة الانتخابات نتائج وخيمة دائما.
بقدر عدالة القوانين المنظمة للانتخابات تتأكد حيوية تعبيرها عن تفاعلات المجتمع.
من الأسباب التى مهدت لسقوط الجماعة شعورها المبالغ فيه بالقوة والاستهتار بالآخرين.
فى انتخابات (٢٠١٢) أمسك ذراعها السياسية «الحرية والعدالة» بالمقاليد كلها تقريبا.
أغلب الأحزاب هرولت إليه للدخول فى تحالف انتخابى.
الهرولة إلى أبواب السلطة الحقيقية أو المحتملة من سمات العمل الحزبى المريض فى مصر.
تحت شعور القوة بدأ «الحرية والعدالة» يفرض شروطه بعجرفة ويتراجع عن وعوده المسبقة بلا اكتراث.
توالت الانسحابات من التحالف مع الجماعة فـ«الوفد» دخل منفردا و«المصريون الأحرار» و«المصرى الديمقراطى الاجتماعى» أسسا «الكتلة المصرية» التى ضمت آخرين.
مع افتتاح البرلمان خسر الإسلاميون سمعتهم السياسية من التكويش على لجانه وإقصاء الآخرين إلى التلاعب باليمين الدستورية وأداء الأذان تحت القبة فى مزايدة صغيرة على منصتها.
لم تكن خسارة السمعة السياسية مفاجئة ولا خارج الحسابات المتوقعة.
بداية الخسارات المتوالية استفتاء مارس (٢٠١١) على التعديلات الدستورية.
تسمم المجال العام بنزعات طائفية وعبارات منفلتة تهدم كل قيمة ديمقراطية وكل تنوع طبيعى فى المجتمع.
فى خلل الأولويات تعثرت الخطى بقسوة.
فى غياب القواعد بدا الصدام محتما.
انتخابات (٢٠١٢) أجريت بلا دستور ينظمها والأجواء التى سادتها توحشت فيها الرشى الانتخابية على نحو لا يحتمل.
أمعنت الجماعة بما توافر لها من موارد مالية فى استعراض قوتها.
شىء من هذا يحدث الآن فى استعراضات المال السياسى.
أسوأ ما قد يحدث أن تعود مصر إلى الألعاب الانتخابية التى أفضت إلى ثورتين.
الاستهتار بالرأى العام وتزوير الانتخابات أوصلنا إلى «يناير».
تهديد طبيعة الدولة والصدام مع القوى المدنية وشبابها قادنا إلى «يونيو».
قبل الذهاب إلى صناديق الاقتراع من جديد تعالت منابر إعلامية تدعو إلى النزول خشية تقدم تيار ينسب إليه التشدد الدينى.
غير أنها تنسى أنها ساعدت على مثل هذا الاحتمال بالتشهير المنهجى بكل قيمة سياسية وأخلاقية فى هذا البلد وانتهاك حرمة الحياة الخاصة واغتيال الشخصية ومسح أرضية الفضائيات بثورة «يناير» وشبابها.
تجفيف المجال العام يعنى بالضبط أحد سيناريوهين، عودة الجماعة أو عودة الماضى.
فى عودة الثانى تمهيد لعودة الأولى.
أى كلام آخر فهو مخادع.
الذين لا يتعلمون من الانتخابات بقلم | عبد الله السناوي
MISRELNHARDA.COM-مصر النهارده TV16 مشاهدة
رابط مختصر
مقالات ذات صلة